الكاتب: أيمن بريك |
- النفوس الكبيرة هي التي تتحمل العفو وتنتصر على النفس
- رجل الأمن "بعبع" في الشارع العربي وفي الغرب إحساس بالأمن
- يجب أن ندرب أنفسنا على العفو حتى يصبح جزءًا من شخصيتنا
- من كمال العفو أن تنساه
- العفو لا يعني ترك الأمور وإلغاء الأنظمة
- العلاقات والقرابة والصداقة ليست مدعاة إلى ترك المحاسبة والمطالبة
- من الخطأ تصور أن العفو هو علامة على الضعف
أكد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة ـ المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم" ـ أن العفو هو القدرة
على الانتصار على النفس، مشيرًا إلى أنه يجب على الإنسان أن يدرب نفسه على العفو بحيث يصبح جزءًا من شخصيته، لافتًا إلى أن العفو لا يعني أن نترك الأمور ونلغي الأنظمة ونعتبر أن العلاقات والقرابة والصداقة مدعاة إلى أن لا يكون هناك محاسبة ومطالبة، لأن هذا لا يسمى عفوًا، وإنما يسمى فوضى أو ارتجالية أو أي شيء آخر.
وقال الشيخ سلمان ـ في حلقة أمس الجمعة من برنامج "الحياة كلمة"، والذي يبث على فضائية mbc ، والتي جاءت تحت عنوان "عفو" ـ: إن كثيرًا من الناس يعتقد أنه إذا عفا فإن هذا علامة ضعف عنده؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا)، مشيرًا إلى أن النفوس الكبيرة هي التي تتحمل العفو، وكما يُنقل عن عليّ -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "أقدر الناس على العفو هم أقدرهم على العقوبة".
وأوضح الدكتور العودة: إننا في عالمنا العربي نعتقد أن السياسة إنما تكون بالأخذ والقوة والضرب بيد من حديد والبطش وأن هذا هو الذي يستصلح الناس، بينما في الواقع أن الناس يصلحهم قدر معتدل من العفو أو من العقوبة، أو أن تكون العقوبة لها حد ومنتهى ومقدار وانضباط أكثر مما يصلحهم الضرب الشديد.
وأضاف فضيلته: لقد لاحظت أن كلمة "رجل الأمن" في عالمنا العربي مسكونة بكثير من المخاوف، بينما في الغرب، وقد رأيت هذا في عدد من الدول الأوروبية حتى العرب الذين عاشوا هناك مع الوقت تعلّموا أن كلمة "رجل الأمن"، ليست بعبعًا أو شيئًا مخيفًا وإنما هي أمر عادي وإحساس بالأمن، وأن الناس قد يتعاملون مع رجل الأمن ويذهبون إليه ويجلسون عنده، لقد رأيت هذا عند المسلمين في بريطانيا وأيرلندا وفي عدد من البلاد.
وأشار الدكتور العودة أن العفو إنما يكون من القادر على العقوبة، سواء كان أبًا أو معلمًا أو مسئولًا، فالعفو مرتبط بالقدرة على العقوبة، وهو القدرة على الانتصار على النفس.
ليس ضعفًا
وضرب الدكتور العودة مثالًا لذلك، بما يحدث في الصومال أو في بعض البلاد التي فيها مناطق تماس واقتتال، مشيرًا إلى أن الذي يحمل الناس على أن يقتل بعضهم بعضًا ليس هو العفو وإنما حب الانتقام ورد الأمر بمثله، وإنما العفو فقد أمر الله -سبحانه وتعالى- به وحث عليه.
وتابع فضيلته أن بعض العرب كانوا يعتقدون أن العفو مدعاة للضعف أو مظهر من مظاهر الضعف فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا)، مشيرًا إلى أن هذا من شأنه أن يوقف الانتقام والثأر الذي كثيرًا ما يقع بحيث يقتل هذا ثم يُقتل من القبيلة الأخرى أكثر منه، وهكذا يعتبرون أن إيقاف هذا القتل كأنه نوع من الضعف.
عفو من بيده سلطة
وردًّا على سؤال يقول: ماذا عن عفو من بيده سلطة كالحاكم أو الموظف المسئول ومن بيده صلاحية؟، قال الشيخ سلمان: إن عليًّا -رضي الله عنه- يقول: إن أحق الناس بالعفو أقدرهم على الانتقام أو على البطش، كما يروى عن عبد الملك بن مروان أنه عندما جاءه الثوار الذين تبعوا عبد الرحمن بن الأشعث وقاتلوه وحاولوا انتزاع السلطة منه، فلما وقفوا بين يديه كان إلى جواره رجاء بين حيوه وهو فقيه جليل فقال ماذا ترى فيهم يا رجاء؟ قال أرى أن الله أعطاك أعظم ما تحب وهو الظفر والنصر فأن تعطي الله تعالى ما يحب قال: وما هو الذي يحب؟ قال الله تعالى يحب العفو. قال: قد عفوت عنهم، مع أنهم ثوار حملوا السلاح!
وأضاف فضيلته أنه يروى مثل هذا عن والي البصرة، أنه عندما جاؤوه بالثوار وكان معهم الحسن البصري فذكره بكلمة يوسف عليه السلام مع إخوانه: (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف:92)، فقال الوالي: أنا والله قد عفوت عنهم وأقول لهم (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) والله لو لم أجد إلا ثوبي هذا لسترتكم به أو واريتكم به، وأمرهم أن يخرجوا.
العفو في القصاص
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إنه يوجد في التشريع بعض من أحكام العفو الواردة المرادفة لبعض من الأحكام مثل العفو عند أحكام القصاص وإنذار المعسر، قال الشيخ سلمان: لقد ورد في القصاص لفظ العفو، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:178)، (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، فنصت الآية الكريمة على إمكانية العفو في القصاص وسمت القاتل أخًا للمقتول تذكيرًا بالرابطة التي من شأنها أن تجعل هناك مجالًا للعفو.
وأضاف فضيلته: ولذلك فإن بعضهم يقول: "إن العفو في القصاص ربما يكون سببًا في كثرة الجرائم"، مشيرًا إلى أن الأمر على العكس، متسائلًا: من الذي قال هذا؟ وما هي التقارير أو الدراسات أو الإحصائيات التي تثبت هذا؟ مؤكدًا أن العفو مدعاة إلى أن يقابل الآخرون الأمر بالعفو، لافتًا إلى أنه ينقل عن غاندي أنه كان يقول: "إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تتوقف الإساءة؟"، وحكيم آخر كان يقول: إنما تكون المسامحة ويكون التسامح من أصحاب القلوب والنفوس الكبيرة.
تسامح.. ورقيّ
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إن هناك من يعتقد أن إشاعة العفو في مكان ما، بالذات بعض الأماكن التي تتطلب سلوكًا إداريًا حازمًا، تنقض عرى الأنظمة والقوانين، قال الشيخ سلمان: هذا لو كنا نعتقد أن العفو هو الفوضى والارتجالية، أما إذا كنا نعتقد أن العفو هو تسامح ورقيّ في الأخلاق فإن الأمر يختلف.
وأضاف فضيلته: هناك أمور تخص الإنسان بصفة شخصية وقضايا تقبل العفو والتسامح، وأخرى عكس ذلك.
ترك.. وطلب
وفيما يتعلق بالمعنى اللغوي لكلمة "عفو"، قال الشيخ سلمان: إن العفو من الناحية اللغوية هو من الأضداد، حيث يطلق على ترك الشيء، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّى قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ» أي: سامحتكم عنها، ومنه الإعفاء، فيقال: إنسان أُعفي عن عمله، أي: أنه تم إعفاؤه بناءً على طلبه، وهذا هو المعنى الشائع للعفو.
وأضاف فضيلته أن العفو قد يكون على العكس فيكون بمعنى "الطلب"، ومنه قول الشاعر:
عفت الرياح على محل ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد
أي قصدت الريح إلى محل الديار وتوجهت إليها وغيّرت معالمها.
عفو.. وصفح
وتعقيبًا على مداخلة تتحدث عن الفرق بين العفو والصفح، قال الشيخ سلمان: إن الصفح أعمق وأبعد أثرًا من العفو، فالعفو معناه أن الإنسان سامحه عن الشيء لكن في الصفح وكأنه فتح صفحة جديدة وكأنه صافحه أيضًا، وعلى ذلك فإن الصفح فيه معنى العفو وفيه معنى زوال أثر الذنب الذي ربما يكون أحيانًا تغيّرًا في القلب على هذا الإنسان.
وتابع فضيلته أنه توجد مرادفات كثيرة أو مقاربات مثل: الغفران والذي يعني الستر، والسماح أو السماحة والتي أيضًا فيها معنى العفو.
العفو المرتجى من الله
وفيما يتعلق بأن أشمل وأفضل معاني العفو هو العفو المرتجى من الله -سبحانه وتعالى- وذلك عندما يلجأ العبد إلى ربه يطلب منه العفو، قال الشيخ سلمان: إن من أسماء الله عز وجل "العفو"، مشيرًا إلى أن العفو جاء في خمسة مواضع في القرآن الكريم، حيث جاء وصف الله تعالى بأنه عفوّ، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)(النساء: من الآية43)، ويقول أيضًا: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)(النساء: من الآية149)، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علّمها: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى».
وأضاف فضيلته أن الله -سبحانه وتعالى- عفوّ يحب العفو ولذلك ينادى بهذا الاسم، وهذا مربوط بالعفو عن الناس؛ ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: من الآية134)، ففي هذه الآية أثنى الله عز وجل على الذين يعفون عن الناس، ولذلك من عفا عن الناس خليق بأن يعفو الله تعالى عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عند الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس -رضي الله عنه- وهو حديث صحيح: «اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ».
تعافٍ.. وتغافر
وقال الدكتور العودة: لقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الخطأ فـ"كل ابن آدم خطاء" وكلنا ذو خطأ، مشيرًا إلى أن كل إنسان خطاء يحتاج إلى أن يعفى عنه، ولذا فعليه هو أن يعفو عن الآخرين الذي يخطئون في حقه، حتى يكون هو خليقًا بأن يعفو عنه الناس، وأن يعفو عنه الله -سبحانه وتعالى-.
وتابع فضيلته أن عفو الله واضح، وأما عفو الناس فلأن الإنسان قد يخطئ في حق الآخرين اليوم فيعفون عنه، وهم قد يخطئون في حقه غدًا فيعفو الإنسان عنهم، وهذا ما يمكن أن نسميه بـ"التعافي" -إن صح التعبير- ولذلك يروى عن ابن السماك أن رجلًا قال له: موعدنا غدًا نتعاتب. أي: يعاتب بعضنا بعضًا. فقال له ابن السماك: بل موعدنا غدًا نتغافر. أي: يغفر بعضنا لبعض ويعفو بعضنا عن بعض، وليس أن نكثر من العتاب ولماذا فعلت ولماذا قلت؟
العفو في الشريعة
وتعقيبًا على مداخلة تتحدث عن مساحة العفو في الشريعة الإسلامية، قال الشيخ سلمان: إنه بجانب عفو الله -سبحانه وتعالى- عن عباده، يوجد معنًى آخر للعفو وهو من عفو الله تعالى، وهو ما ورد في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه الذهبي وحسنه النووي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحلّ الله تعالى فهو الحلال، وما حرّم الله تعالى فهو الحرام، وما سكت عنه الله تعالى فهو العفو فاقبلوا من الله تعالى عافيته"، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(مريم: من الآية64).
وأضاف فضيلته أن الشريعة فيها ما حرّم الله تعالى وهو الحرام، وفيها ما نصّ الله تعالى على حلّه وهو الحلال مثل: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: من الآية275)، فهذا حلال وهذا حرام ثم قال: "وما سكت عنه الله تعالى فهو العفو"، فكأن العفو هو قريب للحلال من جهة ولكنه ليس فيه نص بالإباحة وإنما هو مسكوت عنه؛ ولذلك بعضهم يسميها بـ"منطقة العفو"، كما أن بعضهم يسميها بـ"منطقة المسكوت عنه"، في حين أن بعضهم يسميها بـ"منطقة الفراغ"، وفي العصر الحاضر يستخدمون لفظ "الفراغ الدستوري"، حيث يقولون: إنه يوجد فراغ دستوري في القانون، ويقصدون بذلك الأشياء التي لم يتم النص عليها.
المسكوت عنه
وأردف الدكتور العودة: لقد رأيت بعض الإخوة الباحثين يستنكرون التعبير بالعفو وبمنطقة الفراغ، مشيرًا إلى أنه لا يوجد شيء يفسد البحث العلمي مثل المصادرة أو اتهام الآخرين الذين يقولون بالعفو بأنهم يريدون أن يعبثوا بالشريعة أو ما أشبه ذلك من المعاني، موضحًا أن هذه أمور مقررة عند الفقهاء والعلماء كافة، فجميع الأصوليين يذكرون المباح في الشريعة والذي يشمل المنصوص على إباحته ويشمل المسكوت عنه لأن الله -سبحانه وتعالى- لم يكن نسيًا، فالسكوت عن أمر لا يشمله نص شرعي ولا يشمله نص جلي ولا تشمله قاعدة فقهية متبعة، هو في منطقة العفو التي فيها التوسعة.
وتابع فضيلته أن هذا يشمل كثيرًا من الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية التي توجد في مجتمعات أخرى، وذلك لأن الشريعة لم تنزل لبيئة خاصة ولا لبلد أو ظرف أو عصر معين وإنما نزلت إلى آخر الزمان، مؤكدًا أنه من مقتضى مرونة الشريعة وكمالها أن تكون مناسبة لظروف الناس كلهم ومجتمعات الناس كلهم، وأن يمكن تطبيقها في أي ظرف.
كمال الشريعة
وذكر الشيخ سلمان أن الشريعة في هذه الحالة لن تكون عن وصفة جاهزة أو أجندة خاصة، ولكن الشريعة تنطق بلسان فقهائها وعلمائها الذين هم أشبه بالأطباء الذي يُشخّصون حال المريض ثم يصرفون من صيدلية الشريعة الحكم الذي يناسبها، فهم يستنطقون النصوص الشرعية والقواعد ويعرفون إن كان هذا منصوصًا أو غير منصوص وإن كان داخلًا في دائرة العفو أو داخلًا في دائرة المتشابه أو داخلًا في دائرة المحكم، لافتًا إلى أن هذا من شمول الشريعة؛ ولذلك ينبغي أن يراعى هذا الأمر بصيغة جيدة.
وأشار فضيلته إلى أن هذا من كمال الشريعة ومرونتها، وألا نعتقد أن هذا افتئات على الشريعة، موضحًا أن هناك من يقول: كيف أن الله عز وجل يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا)(المائدة: من الآية3)، ومع ذلك هناك منطقة مسكوت عنها؟!، مؤكدًا أن هذا من كمال الدين، وذلك لأن منطقة المسكوت عنه نص الله -سبحانه وتعالى- عليها، يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(مريم: من الآية64)، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نصّ عليها، حيث إنه سكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله تعالى عافيته.
توظيف سيئ؟!!
وفيما يتعلق بكيفية توظيف مساحة العفو، قال الشيخ سلمان: إن الكثير من الناس يفرطون في السؤال، وهذا في نظري لا يتناسب مع العفو لأنهم يسألون عن أشياء كثيرًا ما يكون مسكوتًا عنها أو هم ربما أدرى، أو قد يكون الحكم فيها خفيفًا، ولكن المفتي لا يريد أن يوظف كلامه توظيفًا سيئًا أو أن يكثر على الناس انتقاده أو يُفهم على غير وجهه فيحتاط لنفسه؛ ولذلك كان النهي عن كثرة السؤال، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا)(المائدة: من الآية101)، فهذا شيء عفا الله عنه لماذا تسألون عنه؟
وأضاف فضيلته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى أيضًا عن كثرة السؤال، حيث يقول: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِى الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَىْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»، مشيرًا إلى أنه من أعظم المسلمين جرمًا من يستفتي في أمر ويوجه السؤال توجيهًا معينًا وكأنه ينتزع من المفتي قولًا بالمنع أو بالتحريم مما يشق على الناس فيكون ذلك سببًا في الحرج على الآخرين بغير وجه حق.
العفو المسموح
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إن كثرة العفو في حقوق الإنسان تعتبر سذاجة وإضاعة للحق واستمرار في الخطأ، قال الشيخ سلمان: لقد كان الشافعي -رضي الله عنه- يقول في أبيات مشهورة:
قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمتَ قُلتُ لَهُم إِنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَرِّ مِفتاحُ
وَالصَمتُ عَن جاهِلٍ أَو أَحمَقٍ شَرَفٌ وَفيهِ أيضًا لِصَونِ العِرضِ إِصلاحُ
كما أن العرب كانوا دائمًا ما يتمدحون بالقدرة على العفو، مشيرًا إلى أننا يجب أن نفرّق ما بين العفو في أمر يصلح فيه العفو، وقد يكون العفو يصلحه، وما بين العفو في أمر ربما يترتب عليه ذهاب القوانين واعتداء الناس، موضحًا أن الإنسان في هذه الحالة ليس مؤهلًا ولا مسموحًا له بأن يعفو، وذلك لأن صلاحيات الإنسان لا تسمح له بأن يسامح هذا الإنسان أو يعفو عنه.
وأضاف فضيلته: ولكن عندما يكون الأمر يخصني، أو خطأ في حقي، ففي هذه الحالة تكون لي القدرة على العفو والتسامح، مشيرًا إلى أن هذه هي القدرة الأخلاقية الرائعة التي ينبغي على الناس أن يتواصوا بها وأن يختبروا نجاحهم مرة بعد مرة.
اعتراف.. وإقرار بالخطأ
وردًّا على سؤال يقول: ألا ينبغي أن يسبق العفو اعتراف وإقرار بالخطأ؟ قال الشيخ سلمان: ليس لازمًا؛ ولذلك يقول الحكماء: "إن العفو هو انتقام رقيق"، فالعفو في حقيقة الأمر هو إشعار الطرف الآخر بأنه أخطأ ولكن بطريقة حضارية راقية، ويكون ذلك بطريقتك الخاصة وليس بالأسلوب الذي يستخدمه هو، فإن اعتذر فهذا شيء جميل ويوجب عليك أن تعفو.
وأضاف فضيلته: لكن حتى لو لم يعتذر، أو لم يشعر الآخر بخطئه، فإنه من التفوق الإنساني والرقي الأخلاقي أن تعفو عنه وتسامح وتعتبر كأنه لم يخطئ كما يقول الشاعر:
إذا بليت بشخص لا خلاق له فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
تجبر.. وتكبر
وفيما يتعلق بأن البعض يزيده العفو تجبرًا وتكبرًا ويشعر أنه المصيب وأن الطرف الآخر هو المخطئ، قال الشيخ سلمان: إنه إذا كان الإنسان يعايش أناسًا هم بهذا المستوى فعليه أن يبحث عن أصدقاء أو زملاء آخرين يكون أكثر واقعية في التعامل معهم، مشيرًا إلى أن المشكلة تكمن في أننا أحيانًا نعفو ونريد أن نستلم الثمن فورًا، مؤكدًا على ضرورة أن يتحول العفو إلى طبيعة، وأن يدرب الإنسان نفسه على العفو بحيث يصبح العفو جزءًا من شخصيته.
وضرب فضيلته مثالًا لذلك، قائلًا: لقد حدث موقف قبل البارحة في الفندق، ووجدت أنني فقدت فيه شيئًا من المستوى الذي أُلزم وأُطالب نفسي به باستمرار، ولكن بعد هذا الموقف مباشرة عاتبت نفسي وحاولت أن أُدربها على أن مستوى العفو أو الأخلاقيات والسمو والتسامح الذي نطالب به ليس هو حالة معينة وتنتهي وإنما ينبغي أن يتحول إلى صفة وجبلة وطبيعة عندنا.
ترك التكلف
وردًّا على سؤال يقول: ماذا عن العفوية (التلقائية)؟، قال الشيخ سلمان: إن العفوية هي باب واسع، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، فالعفو من أخلاق الناس، كما يكون من أموالهم، يقول تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(البقرة: من الآية219) أي: الشيء الميسور السهل، مشيرًا إلى أن العفوية هي ترك التكلف والتصنع، لافتًا إلى أننا نتعامل مع كثير من الأشياء بطريقة رسمية "ترسيم" بعض الأشياء.
وأضاف فضيلته: إنه ربما كثيرًا من المناهج في المدرسة والتعليم والمجتمع، بل وحتى في الحركات، تربي على نوع من التصنع، بينما نحن نحتاج إلى أن نعطي دروسًا في البيت أو في المدرسة أو في الشاشة وفي الشارع في العفوية والتعاطي كما كان الأنبياء، فهذا موسى -عليه الصلاة والسلام-، يقول: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(الأعراف: من الآية143)، (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)(الأعراف: من الآية150)، كل هذه تصرفات فيها عفوية، كذلك إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عندما هدم الأصنام، وكذلك رأى كوكبًا (قَالَ هَذَا رَبِّي)(الأنعام: من الآية76).
رمز للعفوية
وأوضح الدكتور العودة أن النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كانت حياته كلها رمزًا للعفوية سواء في التعامل مع المخطئين أو في التعامل مع الناس بشكل عام، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّى لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»، لافتًا إلى أن العفوية في الأشياء تقتضي أن يحافظ الإنسان على شخصيته، وطبيعته، وألا يتغير بموجب مال ولا سلطان ولا شهرة ولا تكريم الناس له، وأن يكون مستعدًا لأن يتعاطى مع الأشياء البسيطة.
وتابع فضيلته أنه يروى عن إبراهيم ابن أدهم أنه كان مرة في مكان هو وأصدقاؤه فرمى عليهم أحد الجيران رمادًا، أي: رماه في الشارع فوقع الرماد على رأسه، فضحكوا منه، فقال إبراهيم بن أدهم: من استحق النار فصولح على الرماد فهو بخير.
بساطة.. وعفوية
وأردف الشيخ سلمان أن إبراهيم ابن أدهم التقط الأمر التقاطًا بسيطًا وعفويًا، وذلك أن حاله: أنا عبد مذنب ولو عاقبني الله -سبحانه وتعالى- كان الأمر أعظم من ذلك، فما دامت المسألة رمادًا فالأمر هين!
وذكر فضيلته أن هذا يشير إلى تعوّد الإنسان على أن يكون بسيطًا، وقابلًا لأن يكرمه الناس إن أكرموه ولا يتغير وضعه، أو حتى لو تجاهلوه أيضًا لا يتغير وضعه، وألا يستمد شخصيته من الآخرين ولكن بعفويته وطبيعته، وهذا معنًى عظيم وراقٍ وفيه كتب ينبغي أن يتعلمها الناس، لافتًا إلى أن الأسرة هي أول مكان ينبغي أن يتعلم الناس فيه أصول العفوية والبساطة في التعامل.
ذكاء خاص
وردًّا على سؤال يقول: كيف يسوس ربان الأسرة البيت في ظل ثنائية الحزم والعفو، قال الشيخ سلمان: إنه من العفوية أن يتعاطى الإنسان مع الأشياء كلها بدرجة معتدلة، فلا يستحضر العقاب أو التأديب ويغفل عن العلاقة الحميمية التي ينبغي أن تحكم العلاقة داخل الأسرة، أو يستحضر العفو المطلق وينسى الأدب وأن الناس بحاجة إلى من يؤدبهم أو يعلمهم، مشيرًا إلى أن مجموع هذه الأشياء هو الذي يصنع العفوية بمفهومها الفطري الطبيعي المعتدل البعيد عن التكلف.
وأضاف فضيلته أن هذا أمر بالغ الأهمية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين، مشيرًا إلى أن الزوج عندما يكون محكومًا بكبرياء الرجولة وأنه يريد أن تعامله كملك أو كسيد، في حين أن الزوجة سيدة، فإن الأمر في هذه الحالة يحتاج إلى قدر من العفوية وفهم الأمور بطبيعتها، وليس بغباء كما يتخيل البعض بل هو نوع متميز من الذكاء الخاص.
واقعية.. واعتدال
وتعقيبًا على مداخلة تقول: ماذا عن إشاعة العفو بفعله التبادلي ما بين الناس، قال الشيخ سلمان: إنه يروى عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان عنده سلعة ومعه مال فجاء رجل وسرق النقود التي عنده فبدأ الناس يدعون على هذا السارق فقال ابن مسعود: "اللهم إن كان سرقها وهو محتاج لها اللهم بارك له فيها وإن كان سرقها جرأة على الذنب اللهم فاجعلها آخر ذنوبه"، مشيرًا إلى أن هذا هو المعنى الراقي في القدرة على العفو والتسامح عن الناس وتصور دوافعهم التي ربما تحملهم على هذا الفعل بسبب الجهل، أو سوء التربية، أو ظروف مرت بهم.
وأضاف فضيلته أنه إذا قسا عليك شخص ما، فعليك أن تتخيل أن هذا الإنسان وقع ضحية للقسوة في طفولته أو لم يجد من يوجهه إلى الطريق الصحيح، موضحًا أن استحضار الإنسان للأسباب التي تحمل الناس على الفعل لا يجعله يتخيل الخطأ صوابًا بل يظل خطأً، ولكن يوجه الإنسان إلى كيفية التعامل معه خاصةً إذا كان خطأً يخصك أنت، لافتًا إلى أن الناس يكونون أكثر واقعية واعتدالًا في معالجة الأخطاء التي تخصهم حتى لو كانت أخطاءً شرعية، لكن إذا كان الخطأ موجهًا لهم، أو فيه مساس بشخصهم فإن الإنسان ينفعل ويغضب وربما يحتسب بأعلى درجات الاحتساب.
عفو ابتداء
وأشار الدكتور العودة إلى ما يسمى بـ"عفو ابتداء" مثل صلة الرحم، وأنه ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس الواصل بالمكافئ وذلك بعيدًا عن العفو المتبادل، قال الشيخ سلمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»، وأيضًا الحديث الآخر عندما قال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»، وهذا يشير إلى أن الله يكون مع الإنسان الذي يعفو، اللهم «إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى».
وأضاف فضيلته: إنني دائمًا أستذكر أن كل ابن آدم خطاء، فلو أننا سألنا كل الناس عن مدى رضاه عن نفسه، فإنه من العفوية أن يكون الإنسان معتدلًا مع نفسه، وألا يبالغ في مؤاخذاتها، وألا يتساهل معها، لكن مع ذلك يعترف الإنسان بأخطاء قديمة وأخطاء جديدة وأخطاء ربما تركها وأخطاء لم يستطع تركها.
علاج عظيم
وذكر الدكتور العودة أن أعظم علاج لهذه الأخطاء هو أن تدرب نفسك على أن تعفو عن الناس، أو تعفو عن من ظلمك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من أساء إليك.. تعفو عن زوجك وولدك وجارك والخادم والسائق، خاصة عن الفقراء والضعفاء والمساكين ابتغاء ثواب الله تعالى، مشيرًا إلى أن الإنسان عليه أن يتذكر أنه سوف يكون يومًا من الأيام ضعيفًا، وأنه الآن ضعيف أمام قدرة الله تعالى.
واستطرد فضيلته أن العفو يكون بالممارسات السلوكية الحياتية اليومية، مشيرًا إلى أنه كثيرًا ما تجد صراخًا وعتابًا وهذا يحرك يده على السائق ويرفع صوته وربما تسمع أحيانًا شتائم، لافتًا إلى أن هذا قد يكون في بلاد دون بلاد، لأن هناك قدرًا من السكينة في القيادة والحياة والعفوية نحتاج إلى أن نتعلمها ونتدربها.
شهر العفو
وتعقيبًا على مداخلة تقول: إن رمضان قد بقي عليه القليل وهو شهر العفو، قال الشيخ سلمان: نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعفو عنا وهذا مما علمه الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعائشة -رضي الله عنها- «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى»، مشيرًا إلى ضرورة استقبال هذا الشهر الكريم بقدر كبير من جرعات العفو، مضيفًا: إنني أجد أن كثيرًا من الناس يقول: "أنا لا أستطيع أن أعفو عن إنسان دمر مستقبلي أو عمل أو عمل"، ولكنني أقول: إن كل شيء لا يستعظم على العفو خاصةً إذا كنت تعتقد أنك تتعامل مع كريم هو الله -سبحانه وتعالى- الذي يجازي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ضعف وبأضعافٍ كثيرة.
وأضاف فضيلته أن الإنسان يجب أن يعلم أنه يعامل ربًا عظيمًا كريمًا، وأنه دومًا بحاجه إليه في كل حركة ونفس وفي كل لحظة وفي مستقبلك وحاضرك وماضيك، مشيرًا إلى أن الإنسان إذا استشعر هذا المعنى جعل العفو أساسًا في العلاقة، لافتًا إلى أن الإنسان في كثير من الأحيان قد يعتقد نفسه مصيبًا وهو مخطئ، وهذا شيء مجرد تمامًا مائة بالمائة، فنحن نكتشف أخطاءنا لكن بعد فوات الأوان.. فأرى أني كنت أتعامل على أساس أن الآخرين أخطئوا لكن بعد ثوانٍ اكتشفت أنني الذي أخطأت، فكثيرًا ما يعتقد الإنسان أنه أصاب وهو قد أخطأ، وكثيرًا ما يعتقد أن الآخرين أخطئوا في حقه ثم يكتشف أنه هو الذي أخطأ في حقهم.
يقظة.. ووعي بالذات
وأكد الدكتور العودة على ضرورة أن يكون عند الإنسان يقظة ووعي بالذات، مشيرًا إلى أننا نلقي التبعة على الآخرين ونسلط الأضواء على الآخرين وننظر إلى عيوب الآخرين، مثلما يروى عن عيسى -عليه السلام- يقول: "لا تنظروا إلى عيوب الناس كأنكم أرباب. انظروا إلى عيوبكم كأنكم عبيد"، ونحن فعلًا عبيد لله -سبحانه وتعالى- ولسنا عبيدًا للبشر.
وتابع فضيلته: إننا يجب أن نرجع في مراقبة ومعاتبة الآخرين إلى كلمة بن السمّاك: "تعالَ نتعاتب قال: بل تعال نتغافر"، مشيرًا إلى أن الناس عندما يسكتون عنك فإن هذا ليس معناه أنهم يعرفون عيوبك لكنهم أرقى من أن يؤاخذوك بهذه العيوب وأنت ربما عندما تباحث الناس وتطالبهم بعيوبهم وتحاصرهم بذنوبهم، فإن هذا ليس معناه أنك أفضل منهم أو أرقى لكن معناه أنك مبتلى بالبحث عن هذه العيوب.
استسماح على الهواء
وتعقيبًا على مداخلة من مشارك يقول: إنه حدث بينه وبين زوجته خلع هذا الأسبوع، وأنه حاول أن يستسمح زوجته وأهلها، لكنهم لم يعطوه الفرصة، قال الشيخ سلمان: هذه شجاعة، فالأخ الكريم يعتذر على الهواء لزوجته ولأهل زوجته بعد ما انتهى كل شيء، فشكرًا لك أخي الكريم، وتستقبل رمضان بهذا الموقف الإيجابي النبيل الذي نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلك في هذا الشهر من المقبولين وأن يعينك على الصيام والقيام.
وأضاف فضيلته: إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) (النساء:130)، مشيرًا إلى أنه قد تقع حالات خلع وطلاق، ولكنني أفضل الطلاق لأن فيه تسامحًا، بينما الخلع فيه مغالبة وإصرار على رد الحق الذي دفعه الزوج، ولكن مع ذلك أن يكون الخلع ينتهي باعتذار عما قد يكون حصل من خطأ في الماضي فهذا شيء جيد..
العفو خير
وأردف الدكتور العودة: إن الأخ الكريم يتحدث عن أن وقْع الفراق كبير عليه، وأنه ربما يصعب عليه فراق زوجته وأحسّ الآن بشيء من الفراغ وهذا ربما يكون أيضًا درسًا لأن نقول لكثير من الناس الذين يعيشون حالة زوجية ربما يقع فيها شيء من المشكلات، إن العفو فيه خير، فالمشكلة الزوجية كثيرًا ما تقع من خلال المطالبة، فكل واحد يتهم الطرف الآخر، وربما يطالب الآخر ويلقي بالعتب عليه.
وتابع فضيلته: لقد دخلت في حالات عديدة لإيجاد حل لمشاكل بين زوجين متخاصمين، حيث تجد أن الزوجة عندها ملف كبير عن أخطائه، والزوج عنده ملف كبير أيضاً عن أخطائها، وأنه لم يستمع كل واحد منهم إلى الآخر بشكل جيد، ولم يكن هناك حوار هادئ، ولكن كان هناك مطالبة بدون هدوء، لافتًا إلى أن الشيطان ينفخ في هذا وفي هذا حتى يفرّق هذه العروة الوثقى التي ربطها الله -سبحانه وتعالى-.
كمال العفو
وردًّا على سؤال يقول: هل من كمال العفو أن أنسى خطأ الآخر عليّ حتى يكون عفوي مكتملًا؟، قال الشيخ سلمان: إنه من كمال العفو أن تنساه، مشيرًا إلى أننا يمكن أن ندرب القلب والعقل والجسم على النسيان، وأن يتناسى الإنسان هذا الأمر حتى ينساه ولا يذكره بلسانه لأنه إذا كرر ذكره بلسانه سمعته أذنه فاستحضرته من جديد، كما أن للعقل عادات ينبغي أن يتدرب عليها.
وأضاف فضيلته: إنه من الجميل في هذا اليوم المبارك أن نختم بمحاولة أن نعفو عمن نعرف ومن لا نعرف وفي مساء هذه الجمعة المبارك، حيث ساعة الإجابة نتوجع إلى الله ونتضرع إلى ربنا ندعو لأنفسنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا ومشايخنا وأحبابنا وتلاميذنا المستفيدين منا، وندعو على وجه الخصوص لخصومنا ولمن أساء إلينا ولمن ظلمنا ولمن اعتدى علينا، وأن يكون هذا معنًى نؤدب به نفوسنا.
عزلة.. وفتوى
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة تقول: إن الناس أصبح يأكل بعضهم البعض ولم يعد هناك مجال للعفو، قال الشيخ سلمان: لقد ذكر الشافعي هذا، حيث قال:
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضًا عَيانا
وتساءل فضيلته: ما المانع مع وجود البترول والمال والرفاهية أن يكون عند الإنسان بساطة وعفوية وقناعة وسماحة، مشيرًا إلى أن ذلك يرجع إلى التكلف والمدرسة التي ترسم عندنا نوعًا من التصنع في إيجاد عزلة وفواصل بين الناس.
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة تسأل عن دخول الفتوى في مضايق وخصوصيات، قال الشيخ سلمان: هناك تفصيلات تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن أسرة إلى أسرة ومن حال إلى حال، مشيرًا إلى أن إلزام الناس أو تعميم الوضع الخاص ربما يصلح لبلد أو مدينة ولكن لا يصلح لمدينة أخرى، أو يصلح لدولة ولا يصلح للعالم كله.
خلافات.. وتبادل للتهم
وتعقيبًا على مداخلة من مشاركة تتحدث عن وجود خلافات في بعض المجتمعات، قال الشيخ سلمان: إنه لو كان هناك غير مسلمين يعيشون في مجتمعاتنا، فإن الأمر ليس متروكًا لمجرد الإحساس بالعداوة أو الصراع، ولكن يقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)(الممتحنة: من الآية8)، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، وكذلك زيارته لليهودي مثلما ذكرت أم عبد الله وشراء النبي -صلى الله عليه وسلم- الجبن المجلوب من بلاد النصارى، والتعامل مع أهل الكتاب؛ بالتعاطي، والشراكة، والبيع، والشراء، والمجاورة، وبكثير من القيم المدنيّة والإنسانية والحياتية مما هي محل إجماع من الفقهاء في غالب تفاصيل هذه الأشياء، مع أن هذا لا يعارض أبدًا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالخلق الجميل، والقدوة قبل أن تكون الدعوة باللسان.
وأضاف فضيلته: أما سيطرة نظام التغلب، وأن تزور المريض حتى لو كان غير مسلم أو كان مبتدعًا أو كان مخالفًا لك أو كان حتى معاديًا لك، فهذا معنًى جميل، مشيرًا إلى أن عيادة المريض ليس فيها شيء وهي من حق المسلم على أخيه، وعيادة أي مريض حتى لو كان غير مسلم كما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهودي الذي كان إلى جواره، والحديث في صحيح البخاري، وهذا أمر حسن خاصة وإن صاحَبه نوع من نية التأثير عليه وبيان أخلاق الإسلام العليا.
وفيما يتعلق بتبادل التهم، قال الشيخ سلمان: إن اتهام الناس بنياتهم ومقاصدهم أو أنهم أعداء لله ورسوله، أو أن نياتهم سيئة أو أنهم يريدون الإطاحة بالدين وقيمه، كل هذه معانٍ خطيرة، وكأن الإنسان يزكي نفسه ويرمي الآخرين بمثل هذا المعنى.
الصلاة.. وكتاب الجوشن
وردًّا على سؤال يقول: هل هناك فرق بين صلاة الرجل والمرأة من حيث الركوع والسجود؟، قال الشيخ سلمان: إنه من حيث الأصل، فالصلاة واحدة لا فرق فيها إلا أن المرأة إذا سجدت تضم نفسها بخلاف الرجل الذي مطلوب منه أن يباعد أعضاءه إذا لم يضايق من حوله وإلا فالأصل أن الصلاة واحدة في قيامها وركوعها وسجودها والأدعية التي تقال فيها.
وردًّا على سؤال، يقول: ما رأيكم في كتاب الجوشن، قال الشيخ سلمان: إنني لم أطلع على هذا الدعاء الذي ذكرته لكنه يغلب على ظني أنه دعاء رأيته وهذا الدعاء ليس له أصل، إنما ينظر في الدعاء، أي: ليس له أصل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن جبريل علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما ينظر في الدعاء ما كان منه موافقًا مثل دعاء الله بأسمائه الحسنى أو أن يقول أسألك أن تعفو عني أو تنجيني من النار أو تدخلني الجنة فهذا يجوز، أما ما كان فيه تجاوز في الدعاء أو اعتداء فالله -سبحانه وتعالى- نهى عنه وقال: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة: من الآية190).
مساجد اسطنبول
وتعقيبًا على تقرير الحلقة، والذي تحدث عن مساجد إسطنبول، أنشد الشيخ سلمان:
إلى الآذان لحن الخلد في صبب.....الله أكبر هل أحيا لأسمعها
إن كان ذلك يا فوزي ويا طربي
وكم بالأستانة من معان.....أثارت في حناياي الشجونا
معان ليس تعدلها معان.....تفجر في الفؤاد هدى مبينا
تزيد الكافرين أسى وغيظًا.....إذا نظروا وترضي المؤمنينا
ومن ينظر مآذنها يجدها.....رماحًا في صدور الكافرينا
مآثر من بني عثمان فادت.....من الدين الحنيف بها حصونا
وأضاف فضيلته: إن هذه المساجد تعبر عن حضارة عظيمة وعريقة وتاريخ حافل، وهي أيضًا تعبير عن خلود وعن بقاء وآثار البنيان كما يقول:
ذمم الملوك إذا أرادوا ذكرها.....من بعدهم فبألسن البنيان
أتتلفها شلت يمينك خلها.....لمعتبر أو زائر أو مسائل
منازل قوم حدثتنا حديثهم.....ولم أر أحلى من حديث المنازل
0 التعليقات:
إرسال تعليق