لقد كنا في دمشق، قبل الحرب العالمية الأولى، نصلي العشاء وننام فتخلو الطرق إلا من أعقاب السابلة، أو من أهل الليل ... وما أهل الليل إلا الفساق والعشاق واللصوص، يسكن كل شيء ويلفه الليل بثوبه الأسود .
ننام بعد العشاء لتصحو قبل الفجر، وإن غلبنا النوم - وللنوم سلطان - قمنا قبل طلوع الشمس لندرك صلاة الفجر، ما كنا قد ألفنا السهر، ولا تعودنا شر عادة حين جعلنا ليلنا نهاراً ونهارنا ليلاً، كأننا نخالف سنة الله، وطبائع الأشياء، والله قد جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً.
وكنا ننام على الأرض، ما كانت السرر إلا عند الأغنياء، وما كانت أسرتنا منهم . فكنا نمد الفرش في الليل لنطويها في الصباح، ثم نضعها في ((اليوك)) ، وإن لم تعرفوا ما هو اليوك فإن ثلاثة أرباع أهل الشام لم يعودوا يعرفونه، إنه مثل الخزانة في الجدار. لكن بغير باب، ومن غير رفوف، نصف فيها الفرش المطوية بعضها فوق بعض، ويسدل على اليوك ستارة كانوا يعتنون بنقشها وتطريزها.
فأحسست يوماً وأنا نائم حركة عند فراشي، وكان عمري خمس سنين، سنة 1332 . ولكني كنت واعياً، فنهضت فإذا خوان الطعام، وكنا إذا أردنا الطعام مددنا الخوان على الأرض، ووضعنا فوقه الصواني والصحون فعجبت أشد العجب، وأحسست بمثل ما يحس به من يكشف شيئاً جديداً لم يكن معروفاً، ما لهم يستبدلون بالمنام الطعام؟ ما لهم يأكلون ليلاً وعهدي بالفطور أنه في النهار؟ .
وطار نومي من شدة العجب، وسألت بنظرات عيني الحائرة، والدهشة المرسومة على وجهي .. وسمعت المؤذن، لكن لم يكن يؤذن كما أسمعه كل يوم، بل كان يسرع، ينطق الجملة ((حي على الصلاة)) مثلاً، ثم يمد لام الصلاة، ويرخي صوته بها، ثم يرجه رجّاً، ثم يعود فيمده، فإذا بلغ المد أقصى مداه، علا بصوته علواً مفاجئاً ورجّه رجة سريعة، ثم صعد به أكثر فأكثر ثم أخفاه حتى ينتهي الصوت فوق فتشعر كأنه طيارة ارتفعت حتى اختفت بين السحب وضاع أثرها.
وأنا كما قلت لكم من قبل: أوتيت أذناً لاقطة، فإن سمعت نغمة، فلا أنساها، قد لا أستطيع أداءها، ولكن إذا سمعتها بعد ذلك عرفتها، لذلك أكشف الألحان التي يدعيها الملحنون وهي قديمة، كلحن ((بلادي بلادي منار الهدى)) الذي أحفظه بذاته من صغري.
ولذكريات شيخنا في رمضان بقيه فتابعونا
0 التعليقات:
إرسال تعليق