يا ترى ماذا حصل مع السائق الثاني؟، وهل سيكمل الشيخ مسيرته هو وأصحابه من المدرسين السوريين وعائلاتهم إلى مكة معه أم لا؟ هذا ما سوف نعرفه اليوم مع أشتات من الذكريات عن موسم الحج للشيخ علي الطنطاوي..
يقول رحمه الله:
ومصيبة النوم على السائقين أشد المصائب، لا بل عليهم وعلى الركاب، ولقد كنا نحب أوائل عهدنا بمكة لما قدمت إليها للإقامة فيها، أن تجتمع الأسر، الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، فنذهب إلى مكان لنقضي فيه ساعات، بلا تكشف ولا اختلاط. فذهبنا مرة إلى بستان الكعكي في المسفلة، وهو قطعة من غوطة دمشق انتقلت إلى هذا المكان، كما زعم العرب قديماً أن الطائف كانت قطعة من الشام، انفصلت عن مكانها ثم طافت ما طافت حتى استقرت هنا، فمن ذلك سميت – كما زعموا – الطائف.
كان يسوق بنا سيارة دون سيارات النقل الجماعي وأكبر من السيارات العادية، فوقف بنا أمام البستان، وكان صاحب هذا البستان جزاه الله خيراً يأذن لنا أن ندخل بستانه، وأن نقيل فيه ساعات، وكنا نمنع الصغار أن يسببوا له أذى، ويحدثوا في بستانه حدثاً، فلما خرجنا وجدنا السائق نائماً فأيقظناه، فلم يستيقظ، فشددناه وضربه ناس منا وقام ناس فصبوا في عنقه الماء المثلج من القوارير التي نحملها معنا، فما أفاق، ولم تنجح معه حيلة. فقال لنا الصبي الذي يرافقه: لا تتعبوا أنفسكم فإنه أمضى ليلتين ونصف الثالثة لم يغمض له جفن، فلو أنكم قرعتموه بالمقارع، ولذعتموه بالجمر لما أفاق، فحملنا أمتعتنا وسرنا من بستان الكعكي إلى حيث نجد سيارة في المسفلة فكان موكباً عجباً، رجال يحملون أحمالاً بأيدهم وعلى أكتافهم، ونساء يسحبن أطفالاً، وربما كان لبعضهن أطفال في بطونهن، ونحن نمشي نتمايل ذات اليمين وذات الشمال حتى بلغنا مكة.
* * *
أعود إلى ما كنت فيه: لقد قرأتم مضى من هذه الذكريات الكلام عن مكة لما جئتها أول مرة سنة 1353هـ من إحدى وخمسين سنة، وكيف كان الحرم، وكيف كانت الطرق، وكيف كانت أماكن المشاعر.
يا أيها الإخوان، إن الذي نراه اليوم كان حلماً من الأحلام فتحقق الحلم، لو خططنا خطاً بيانياً لما كنا فيه وما انتهينا إليه، لرأيناه صاعداً كما يصعد المرء الجبل، يعلو ثم يعلو، حتى إذا كانت هذه السنون الأواخر، وجاء هذا الموسم الذي نحن فيه بلغ هذا الخط ذروة الكمال، لو كان في طاقة البشر في الدنيا الكمال، فلله الحمد، ثم الشكر لمن كرمه الله فجعل تحقيق هذه الأمنية على يديه.
أنا لا أريد أن أذكر كل ما صنعوه، ولا اقدر أن أذكره، ولكن الله يذكره لأصحابه يجزل ويزيدهم من ثوابه، ويسخر أقلام المؤرخين لتدوينه وكتابته. وثواب الله خير من ثناء الناس، وذكر المؤرخين. أنا لا أريد هنا أن أؤرخ لكل ما صنعوه في المشاعر، لخدمة الحجاج، ولا أن أكتب استطلاعاً (أي ريبورتاج) أبين فيه بعض ذلك، ولكنها قطعة من سلسلة ذكرياتي، في هذه القطعة من الذكريات عن الحج حبات إن باعد بينها الزمان فلقد قرب بينها الموضوع.
إن أقدم ذكرى في نفسي من الذكريات المرتبطة بالحج واحدة مدفونة في أعماقها فوقها أثقال إحدى وسبعين سنة، ولكن هذه الأثقال تبدو في نظري شفافة، ذكرى واضحة من ورائها كأنها ما تزال أمامي. كان عمري سبع سنين، وما ينقش على صفحة ذاكرة ابن سبع سنين لا يمحوه كر السنين. كانت دمشق كما قلت من قبل كطائر له جسم وله جناحان. أما جسده فالأموي والقلعة، وما يحيط بهما. وأما جناحه فأحياء الصالحية والمهاجرين والأكراد، والجناح الثاني حي الميدان، وكنا نعيش حياة جامدة راكدة ما فيها إلا مشاهد متشابهة، ولكن أعظم هذه المشاهد هو سفر المحمل.
والمحمل بدعة ما لها أصل في الدين، ما أدري متى وجدت: هودج على شكل هرم مربع الأضلاع يوضع على ظهر الجمل، منقوش نقشاً مزخرفاً فيه آيات وفيه عروق بألوان مغريات، ولا يزال محفوظاً في المتحف الوطني في الشام.
وكان يرد مكة في موسم الحج المحمل الشامي والمحمل المصري، ومع كل منها قوة من الجند تحميه، ومقدار من المال يغرون به الأعراب الذين يخشى عدوانهم على موكب الحج. كان ذلك قبل أن يوفق الله عبد العزيز إلى جعل طريق الحج آمناً، لا يخاف المسافر فيه، ولو كان وحده. ولقد كتبت في الرسالة لما جئنا مكة أول مرة من طريق البر سنة 1353هـ (وقد مر خبر ذلك) أن الصحراء في عهد عبد العزيز آمن من شارع الشانزليزيه في باريس. وأزيد الآن آمن من الشارع الخامس في نيويورك. وهذا حق واقع لا مبالغة أديب.
كانت دمشق كلها تنتقل في ذلك اليوم إلى طريق الميدان، فالباعة يعرضون بضائعهم وأصحاب الألعاب يعرضون ألعابهم والمنشدون وأهل الفنون الشعبية يبدون فنونهم ويرفعون أصواتهم بأناشيدهم، والناس يملئون النوافذ المطلة على هذا الشارع، ويصفون كراسيهم على جانبيه كل ذلك انتظاراً لمرور الموكب الذي تسبقه جماعات الفرسان، والموسيقى العسكرية، ثم يأتي البيرق وهو علم ملفوف، ثم يأتي المحمل، والوالي والمشير وكبار الموظفين والأعيان في عرباتهم، إذ لم تكن السيارات قد عرفت في دمشق.
في ذهني صورة ليست كاملة واضحة الجوانب لهذا اليوم ولعل هذه المرة كانت آخر مرة يخرج فيها المحمل من دمشق، ومن شاء أن يراه فإنه موجود في المتحف الوطني فيها. كان موكب الحج يمضي أربعين يوماً في الذهاب، ومثلها في الإياب. فإذا عاد الحجاج حملوا معهم الهدايا من مكة والمدينة، وأكثر ما يحملونه معهم ماء زمزم في علب صغيرة من الصفيح، محكمة الإغلاق، وبعض تمر المدينة يأكلونها تبركاً به وشيئاً من تراب المدينة في قطع على شكل كمثرى ملفوف بشرائط ضيقة من القصب، كنا نلعقه بألسنتنا لنتبرك به.
وكل ذلك – كما يعلم الجميع – لا أصل له في الشرع. ومن الهدايا التي كان يحملها الحجاج طاسات وكؤوس وأوان من النحاس المنقوش نسميه في الشام "المكاوي" نسبة إلى مكة، مع أنه لم يصنع فيها، وإنما صنع كما أظن في الهند أو في غيرها، فلست أدري على التحقيق.
ومرت الأيام حتى جاءت سنة 1353هـ فرحلنا رحلة الحجاز الصحراوية التي سبق الحديث عنها. ولم ندرك فيها أيام الحج، ولكن وصلنا بعد انقضائها.
حججت أول حجة سنة 1373هـ ولهذه الحجة حديث طويل سيأتي إن شاء الله عقب الكلام على المؤتمر الوحيد الذي حضرته في عمري، وهو مؤتمر القدس، والذي انتخبت رئيساً لإحدى لجانه التي هي لجنة الدعاية. ورحلنا رحلة طويلة إلى آخر المشرق، نعرف المسلمين بقضية فلسطين، ونشرحها لهم، من غير أن نقبض مالاً، لأن عندي خشية تبلغ حد الوسواس من الدخول في قضايا تتصل بجمع المال واستلامه.
وسأصف إن شاء الله كيف كانت مكة في تلك الأيام، وكيف كان الحرم قبل توسعته هذه الأخيرة، وإن كان قد مر طرف من ذلك فيما سلف نشره من هذه الذكريات.
ثم حججت أنا وأهلي سنة 1381هـ ، وكنت قد رجوت وأنا في دمشق أخي الأستاذ الصواف أن يحجز لي ولها غرفة في فندق مصر (فندق الكعكي الآن).
في هذه الحجة مواقف كثيرة في ذكرها متعة، ويفه منفعة أسردها الآن سرد أجدادنا للمتون، ثم أعود إن شاء الله فأشرحها وأحشي عليها كما كانوا يفعلون، أو إن شئتم فإنني آتي بها الآن موجزة كما يصنع المذيع في الأخبار، ثم أعود إلى تفصيلها وبيان ما لها من الآثار.
من ذلك أنه صاحبنا في الطيارة جماعة من المعارف وبعضهم يقرب أن يعد في الأصدقاء. فلما نزلنا انشغلوا بأنفسهم عنا، وكان معي كتاب توصية من مساعد قضائي عندي في محكمة التمييز (النقض) من كرام أهل الشام إلى وكيل للمطوفين اسمه أبو زيد. ولم أبرز له الكتاب ولكنه سبقني فسألني عن اسمي ثم دعاني إلى مكتبه أنا وأهلي، فأكرمنا إكراماً لا مزيد عليه، ورحب بنا واستنظرنا قليلاً حتى يعد لنا سيارات توصلنا إلى مكة، فلما رأى ذلك أصحابنا الذين كانوا معنا، جرتهم المنفعة إلى الالتصاق بنا، فاقتربوا منا بعد أن كانوا قد أعرضوا عنا، واستغلوا كرم الرجل حتى أنهم سألوه عن موقع السوق فأرسل معهم من يدلهم، وأوعز إليه أن يشتري هو لهم ويدفع ثمن مشترياتهم فتجلى الطمع في بعض النفوس فاشتروا ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون إليه، لأنهم اطمأنوا أن الثمن يخرج من كيس غيرهم!
في هذه الحجة مواقف كثيرة لا بد من العودة إلى توضيحها وإلى تفصيلها، فمن ذلك أنني لما وصلت رأيت حارس الفندق نائماً لأن وصولنا كان في السحر، وكانت غرفتي محجوزة أدفع أجرتها من يوم حجزها، ومع ذلك لم أستطع الوصول إليها فذهبت إلى الحرم.
ومن أخبار تلك الحجة التي سأعود إن شاء الله إلى بيانها أنه كان معنا في الفندق ناس من أفاضل العلماء، ومن كبار القوم، منهم الشيخ محمد حسنين مخلوف، أطال الله عمره، وأبقى عليه صحته، والشيخ القلقيلي مفتي الأردن، رحمة الله عليه، فأخذاني إلى الاجتماع الذي أنشئت فيه رابطة العالم الإسلامي، وكان المفروض أن أعد من هيئتها التأسيسية. ولكنني لما أعرفه من نفسي من التوحد والعمل المنفرد انسحبت منها واعتذرت عنها. وفي تلك الحجة دعيت في المدينة إلى أن أكون أحد أعضاء المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية فحضرت جلسة تعرفت فيها إلى ناس كرام جداً، منهم العالم الفاضل الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه، صاحب أضواء البيان.
وقد حضرت على خلاف عادتي دعوة كان لها في نفسي أطيب الأثر عند الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام الحرم وخطيبه وقاضي البلد، وكأنني سمعت من أحد الحاضرين أن هذه الدار هي الدار التي كان يسكنها عثمان بن عفان رضي الله عنه، والله أعلم بصحة ما سمعت. وقد عرفت رجلاً خبيراً بالمدينة وآثارها دلني عليها. وأخذني إليها، اسمه الشيخ الحافظ، وقد كان مدرساً ثم علمت أنه صار قاضياً في محكمة المدينة. وممن عرفته من المطلعين على آثار المدينة الأستاذ محمود الحمصي الذي كان مدرساً في مدارس المدينة وهو ابن شيخنا الشيخ صالح، جاء معه بمسودة الكتاب ليطبعه في دمشق، فاطّلعت عليه وشاركته في تصحيح أخطاء الطباعة فيه.
أحداث كثيرة ربما عدت إلى بيانها إذا عرضت مناسبتها.
لو وضعت أمامي الصورة الأولى التي عرفت فيها مكة والمدينة، ومواضع المشاعر فيها، لو ذكرت ما كانت عليه، وأظهرت ما انتهت إليه، لفركت عيني متعجباً كأنني لا أصدق ما أراه.
كان الحاج يقطع أربعين يوماً حتى يصل من دمشق إلى مكة، فصار يصل بالطيارة إلى مطار جدة في ساعتين اثنتين، وكان يحمل زاده وكل ما يحتاج إليه ليعيش به، فصار يجد الآن الأسواق ممتلئة بكل ما أخرجت الأرض الطيبة وما أنتجت الأيدي الصناع، وما أصدرت المعامل حتى صار الحاج يشتري البضاعة من هنا ويحملها معه إلى بلده، وكان يحمل معه الماء فيشربه إذا عطش فاتراً أو حاراً، فصار يجد الماء المثلج النقي موجوداً يقدم بالمجان.
أما الطرق وشقها والأنفاق وفتحها في بطون الجبال، والمرور وتنظيمه، وإقامة المرافق التي تنفع الحجاج، وتوسعة المساجد في مكة والمدينة وعرفات ومزدلفة ومنى وغيرها، أما ما بلغته هذه البلاد من الرقي والعمران وارتفاع البنيان، فلا يكاد يصدق، ولو أن كاتباً تخيل ربعه فكتبه قبل ثلاثين سنة لعدوه من شطحات الخيال، أو من علامات الخبال.. وأهم من هذا كله أن ما كان يلقاه الحجاج من الخوف على حياتهم وعلى أموالهم، قبل عهد عبد العزيز، قد ذهب كله بهذا الأمن المنقطع النظير. هذا كله لا يمكن أن يشار إليه في فقرة من مقالة في جريدة، بل تنظم فيه معلقات وتكتب فيه مجلدات، وكل ذلك لا يساوي شيئاً أمام ما يرجى لمن قام به ثواب الله في الدار الآخرة. فجزى الله هؤلاء الذين قاموا بهذا كله أفضل الجزاء..
0 التعليقات:
إرسال تعليق