تكملة أشتات من الذكريات عن موسم الحج للشيخ علي الطنطاوي
توقفنا في المقال السابق عند إجابة الشيخ علي الطنطاوي لسؤاله الثاني وهو (لماذا أحدث بهذا الآن؟) فيقول رحمه الله:
أما جواب سؤالي لماذا أحدث بهذا الآن؟ فلأن ذكر الماضي حلو في الأفواه ولو كان هذا الماضي مر المذاق. إن فقده غلفه بغلاف براق، يلمع من خلال الذكريات، فيستهوي لمعانه القلوب الشواعر، لذلك كان من أعظم فنون الشعر العربي القديم الوقوف على الأطلال وبكاء الديار.
لا يبكي الشاعر حجراً ميتاً، كما زعم أبو نواس ساخراً بل يبكي زماناً كان حياً، يبكي قطعة من عمره كانت فبانت.
لذلك قال دانته شاعر الطليان الأكبر: إن ذكرى اللذات الماضية تؤلمنا. ولعل مفهوم كلامه صحيح أيضاً. فذكرى الآلام الماضية تسرنا.
كيف أمضينا من عرفات إلى مكة سنة 1384 أربع عشرة ساعة؟ لم نكن قد عرفنا مكة، ولا أساليب الراحة في الحج، مع استكمال فرائضه وواجباته. كنا غرباء ولم نستعن بأهل البلاد، بأهل مكة الذين هم أدرى بشعابها، فاجتمعنا، معشر المدرسين من السوريين، نحن وأسرنا فبلغ عددنا أكثر من خمسين، بين رجل وامرأة، وكبير وصغير، ثم استأجرنا سيارة كبيرة من سيارات المطوفين، فكان عملنا كعمل الروم (البيزنطيين) في معركة اليرموك لما ارتبطوا بالسلاسل عند الواقعة، فلما كانت الهزيمة وسقط واحد من المرتبطين جرهم معه جميعاً، فوقعوا فيها. اخترنا أولاً سائقاً، بدا لنا أنه نشيط، وأنه قوي متحمس يفيض فتوة وشباباً، فلما كان الازدحام عند الإفاضة من عرفات، وقفت السيارات تسد الطريق صفوفاً أربعاً، تتحرك الواحدة منها عشرة أذرع في ربع دقيقة، لتقف بعد ذلك نصف ساعة تنتظر فسحة تمر منها، وكان يرى في الصف الذي هو على أيماننا أو الصف الذي عن شمائلنا فرجة لسيارته فيخرج من صفه ليدخل فيه فربما ضاع منه المكان الذي كان فيه، ولم يصل إلى المكان الذي طلبه، فوقفنا بين الصفين وكان إلى جنبه هراوة ضخمة (عصا ضخمة) ما عرفت المراد من وضعها هنا، حتى وجدته كلما كانت هيعة أو كان نزاع، لا شان له به ولا هو من أطرافه أو من مثيريه، ترك سيارته وأخذ هراوته واقتحم الخلاف ليقاتل فيه ينصر طائفة على طائفة، فيسير من هو أمامنا من السيارات، فيخلو الطريق لنا، وصاحبنا السائق مشغول بمعركة، لا ناقة له فيها ولا جمل، ولا شاة ولا حمل، أي أنه كالذي يدعونه في الشام (غوار الطوشة) وهذا ليس اسماً للممثل الهزلي المعروف، ولكنه لقب عندنا للذي يدخل نفسه في كل "طوشة" أي كل معركة، يغير فيجعل نفسه من أصحابها وما هو منها ولا أرب له فيها..
وطال ذلك من السائق حتى ضاقت به صدورنا وقمنا عليه، والكثرة تغلب الشجاعة، وهو إن كان قوياً وكان معه عصاه، فإنه لا يقوى على خمسين، ولو كان ثلثاهم من النساء والأطفال، فطردناه وجاءونا بسائق آخر هادئ وساكن، ليس معه عصا، وما به حركة، فانتقلنا من حرارة الصيف الملتهب إلى برودة الشتاء، ومن النار المحرقة إلى الصقيع المجمد. كان هذا السائق الجديد نعسان، كأنه لم ينم من ليلتين، بل احذفوا كلمة كأن فهو لم ينم من ليلتين فعلاً لذلك كان كلما أبطأ السير، وهو بطيء على طول الطريق، ألقى برأسه على مقود سيارته فذهب في غفوة، فكنا نوقظه بالألسنة، وبالصراخ وبالأيدي، فيكون تعرضنا للهلاك بسبب نومه، كما كدنا نتعرض للموت والاصطدام بسبب حماسة وطيش السائق الأول الأهوج.
يا ترى ماذا حصل مع السائق الثاني؟، وهل سيكمل الشيخ مسيرته هو وأصحابه من المدرسين السوريين وعائلاتهم إلى مكة معه أم لا؟
هذا ما سوف نعرفه بإذن الله في الأيام القادمة مع ذكريات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله فتابعونا..
0 التعليقات:
إرسال تعليق